فصل: (فَصْلٌ): في الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ): في الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:

قَالَ: (وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً الْحِدَادُ) أَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَمَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ وَجَبَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ زَوْجٍ وَفِي بُعْدِهَا إلَى مَمَاتِهِ وَقَدْ أَوْحَشَهَا بِالْإِبَانَةِ فَلَا تَأْسَفْ بِفَوْتِهِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ».
وَقَال: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَلِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةُ مُؤَنِهَا، وَالْإِبَانَةُ أَقْطَعُ لَهَا مِنْ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ مَيِّتًا قَبْلَ الْإِبَانَةِ لَا بَعْدَهَا (وَالْحِدَادُ) وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ وَهُمَا لُغَتَانِ (أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَالْكُحْلَ وَالدُّهْنَ الْمُطَيَّبَ وَغَيْرَ الْمُطَيَّبِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَّا مِنْ وَجَعٍ) وَالْمُعْتَدُّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا كَيْ لَا تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ.
وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ وَفِيهِ زِينَةُ الشَّعْرِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ عَنْهُ قَالَ: إلَّا مِنْ عُذْرٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَالْمُرَادُ الدَّوَاءُ لَا الزِّينَةُ.
وَلَوْ اعْتَادَتْ الدُّهْنَ فَخَافَتْ وَجَعًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ كَالْوَاقِعِ، وَكَذَا لَيْسَ الْحَرِيرُ إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): في الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:
لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا أَخَذَ يَذْكُرُ مَا يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْلِ وُجُوبِهَا.
قولهُ: (وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ) يَعْنِي وَيَجِبُ بِسَبَبِ التَّزَوُّجِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَأَصْلُهُ الْمَبْتُوتُ طَلَاقُهَا، تَرَكَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ابْتِدَاءً، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَهَلْ يُبَاحُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: لَا يَحِلُّ الْإِحْدَادُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ أَخُوهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزَّوْجِ خَاصَّةً، قِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ إبَاحَتِهِ لِلْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَبْتُوتَاتِ يُفِيدُ نَفْيَ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُحِدَّ عَلَى قَرَابَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَهَا زَوْجٌ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا عَلَى تَرْكِهَا إذَا امْتَنَعَتْ وَهُوَ يُرِيدُهَا.
وَهَذَا الْإِحْدَادُ مُبَاحٌ لَهَا لَا وَاجِبٌ عَلَيْهَا وَبِهِ يَفُوتُ حَقُّهُ.
قولهُ: (فَلِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: «تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ: إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَالْحَمِيمُ الْقَرِيبُ.
وَقَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَوَقَعَ فِيهِ مُفَسَّرًا هَكَذَا: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ.
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ فِيه: «فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إيجَابِ الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ نَفْيِ الْحِلِّ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحِلِّ وَلَا كَلَامَ فِيهِ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ نَفْيُ الْإِحْدَادِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيِهِ وَهُوَ إثْبَاتُهُ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ لَا إحْدَادَ إلَّا مِنْ زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يُفِيدُهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَمِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ إيجَابُ الزِّينَةِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْإِيجَابِ فَيَكُونُ إيجَابًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ لَازِمٍ، إذْ يَمْنَعُ كَوْنَ نَفْيِ حِلِّ الشَّيْءِ الْحِسِّيِّ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا لِيَتَضَمَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِهِ بَلْ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْحِلِّ، وَلَوْ سَلِمَ فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِتَحَقُّقِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَلَا وُجُوبَ.
وَأَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْإِحْدَادِ مِنْ إيجَابِ الزِّينَةِ حَاصِلُهُ نَفْيُ وُجُوبِ الزِّينَةِ وَهُوَ مَعْنَى حِلِّ الْإِحْدَادِ، وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ حَاصِلٌ مَعَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْإِحْدَادُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ عَلَى صِفَةِ الْوُجُودِ فِيهِمَا فَهُوَ كَالْأَوَّلِ، فَلِذَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: وَمَا فَاهُوا بِهِ بِمَا فِيهِ ثَلْجُ الْفُؤَادِ.
وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَكِنْ يَحِلُّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِالْإِخْبَارِ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِلْمُصَنِّفِ مَحْكُومًا بِإِرَادَةِ الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ فِعْلِهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِظُهُورِ إرَادَتِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَلَمْ يَخْفَ أَنَّ الْإِخْبَارَ الْمُوجِبَ لِلْوُجُوبِ الْإِخْبَارُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا مَثَلًا إذَا قَالَ الْحِدَادُ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ أَفَادَ الْوُجُوبَ لَا إذَا قَالَ الْحِدَادُ ثَابِتٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ أَعَمُّ.
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا ظَهَرَتْ نُبْذَةٌ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ فِي تَفْصِيلِ مَعْنَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ، وَالنُّبْذَةُ بِضَمِّ النُّونِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ، وَالْقُسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ، رَخَّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ.
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالت: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا - بِضَمِّ الْحَاءِ -؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقول: لَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُرْمَى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» قَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدَ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الْحِفْشُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ: الْبَيْتُ الصَّغِيرُ قَرِيبُ السَّقْفِ حَقِيرٌ وَتَفْتَضُّ بِفَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ قِيلَ: أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ وَلَا فَضَّ اللَّهُ فَاك.
وَقِيلَ: الِافْتِضَاضُ الْإِنْقَاءُ بِالْغُسْلِ لِيَصِيرَ كَالْفِضَّةِ فَهُوَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ لِصَبْرِهِ عَلَى صُحْبَتِهَا إلَى الْمَوْتِ، بِخِلَافِ ابْتِدَائِهِ لِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُوحِشُهَا وَخُلْعِهِ لِأَنَّهَا رَاغِبَةٌ فِيهِ لِمَكَانِ سُؤَالِهَا.
قُلْنَا: فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ نَصٌّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ» ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَعَزَاهُ لِلنَّسَائِيِّ هَكَذَا، وَلَفْظُهُ: «نَهَى الْمُعْتَدَّةَ عَنْ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ كَوْنُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُهُ حَدِيثَيْنِ حَدِيثَ «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» الْمُتَقَدِّمَ، وَحَدِيثَ أَبِي دَاوُد عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا عَنْ مَوْلَاةٍ لَهَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالت: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي عِدَّتِي مِنْ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ: لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قُلْتُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» فَمَعَ الطَّعْنِ فِي إسْنَادِهِ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ فِي مُعْتَدَّةٍ عَنْ وَفَاةٍ.
وَلَوْ سَلِمَ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِجَامِعِ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ مَا عَيَّنَّهُ الشَّافِعِيُّ مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ عَلَى الْحَصْرِ بَلْ فِي الْمَحَلِّ أَيْضًا إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّهُ ضَابِطٌ لِلْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِفَوَاتِ الزَّوْجِ، وَكَوْنُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ مِنْ مُهَيِّجَاتِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَتَمْتَنِعُ دَوَاعِيهِ دَفْعًا لِمَا يُدَافِعُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا عِنْدَ قولهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ ذَكَرَ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ لِأَنَّ الْمُنْضَبِطَ فَوَاتُ مَا قُلْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا هُوَ دَوَاعِيهِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحَلٍّ ثَبَتَ مَعَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَفِي الْمَبْتُوتَةِ إنْ فُقِدَ التَّأَسُّفُ عَلَى الزَّوْجِ فَالْآخَرُ وَهُوَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ مَوْجُودٌ، وَلَوْ تَمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ مُطْلَقًا لَيْسَ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِقولهِ تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فَلَا يَكُونُ الْإِحْدَادُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَنُوطٌ بِهِ لَزِمَ كَوْنُ وُجُوبِهِ تَبَعًا لِلْعِدَّةِ بِالنَّصِّ أَوْ مَعْلُولًا بِالْآخَرِ فَقَطْ، لَكِنْ مُنِعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقولهِ تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} الْآيَةَ، الْأَسَى مَعَ الصِّيَاحِ وَالْفَرَحُ مَعَ الصِّيَاحِ، نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا.
قولهُ: (وَالْحِدَادُ وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ) فَمِنْ الْأَوَّلِ يُقَالُ حَدَّتْ الْمَرْأَةُ تَحُدُّ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْضًا حِدَادٌ فَهِيَ حَادٌّ، وَمِنْ الثَّانِي يُقَالُ: أَحَدَّتْ تُحِدُّ إحْدَادًا فَهِيَ مُحِدٌّ.
قولهُ: (أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ) وَلَا تَحْضُرَ عَمَلَهُ وَلَا تَتَّجِرَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ إلَّا فِيهِ.
قولهُ: (وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَقَدَّمَ.
قولهُ: (وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ) إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الْمُدْهَنِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طِيبِ نَفْسِهِ بِهِ وَزِينَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلزَّيْلَعِيِّ مُخْرِجُ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَهْمٌ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَةَ الدُّهْنِ عَطْفًا عَلَى الِاكْتِحَالِ فَقَالَ عَنْ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ وَالدُّهْنِ، فَخَرَّجَ حَدِيثَ مَنْعِهِ الِاكْتِحَالَ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الدُّهْنُ فَقَرِيبٌ وَهُوَ سَهْوٌ، فَإِنَّ الدُّهْنَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قولهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ فَأَلْحَقَهُ إلْحَاقًا.
قولهُ: (قَالَ: إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ، وَذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَوْ مِنْ وَجَعٍ وَعُذْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ نَهَى نَهْيًا مُؤَكَّدًا عَنْ الْكُحْلِ الَّتِي اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا، وَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَهَا فَتَكْتَحِلُ بِكُحْلِ الْجَلَاءِ فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ فَقَالَتْ: لَا تَكْتَحِلْ مِنْهُ إلَّا مِنْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ يَشْتَدُّ عَلَيْك فَتَكْتَحِلِي بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ ثُمَّ قَالَتْ: عِنْدَ ذَلِكَ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ صَبْرًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ فَقُلْتُ: إنَّمَا هِيَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ وَانْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ أُمَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَتَمْتَشِطُ بِأَسْنَانِ الْمِشْطِ الْوَاسِعَةِ لَا الضَّيِّقَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَأَطْلَقَهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، وَكَوْنُهُ بِالضَّيِّقَةِ يَحْصُلُ مَعْنَى الزِّينَةِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهَا، وَبِالْوَاسِعَةِ يَحْصُلُ دَفْعُ الضَّرَرِ مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ تَحْتَاجُ لِإِخْرَاجِ الْهَوَامِّ إلَى الضَّيِّقَةِ.
نَعَمْ كُلُّ مَا أَرَادَتْ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ لَمْ يَحِلَّ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ الْبَحْتَيْنِ وَالسَّمْنِ فَمَنَعْنَاهُ نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ إلَّا لِضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الزِّينَةِ بِهِ، وَأَجَازَهُ الْإِمَامَانِ وَالظَّاهِرِيَّةُ.
قولهُ: (لِعُذْرٍ) كَالْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ وَالْمَرَضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ لَهَا الْحَرِيرُ الْأَسْوَدُ وَالْحُلِيُّ، وَالْمَعْنَى الْمَعْقول مِنْ النَّصِّ فِي مَنْعِ الْمَصْبُوغِ يَنْفِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِ الْحُلِيِّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ الْمَصْبُوغِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إلَّا الْعَصْبَ فَشَمَلَ مَنْعَ الْأَسْوَدِ.

متن الهداية:
(وَلَا تَخْتَضِبْ بِالْحِنَّاءِ) لَمَا رَوَيْنَا (وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِعُصْفُرٍ وَلَا بَزَعْفَرَانٍ) لِأَنَّهُ يَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ.
قَالَ: (وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ (وَلَا عَلَى صَغِيرَةٍ) لِأَنَّ الْخِطَابَ مَوْضُوعٌ عَنْهَا (وَعَلَى الْأَمَةِ الْإِحْدَادُ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ يَفُوحُ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ خَلِقًا لَا رَائِحَةَ لَهُ يَجُوزُ.
وَفِي الْكَافِي قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَوْبٌ إلَّا الْمَصْبُوغَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِضَرُورَةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ الزِّينَةَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِقَدْرِ مَا تَسْتَحْدِثُ ثَوْبًا غَيْرَهُ إمَّا بِبَيْعِهِ وَالِاسْتِخْلَافِ بِثَمَنِهِ أَوْ مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا.
وَرَوَى مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْبَسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد. وَالْمَشْقُ الْمَغْرَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْعَصْبَ عِنْدَنَا.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ رَقِيقَهُ وَغَلِيظَهُ، وَمَنَعَ مَالِكٌ رَقِيقَهُ دُونَ غَلِيظِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِهِ، فِي الصِّحَاحِ: الْعَصْبُ ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ يُنْسَجُ أَبْيَضَ ثُمَّ يُصْبَغُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي الْمُغْنِي: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ، وَفُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَيُبَاحُ لَهَا لُبْسُ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَعَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَخْضَرِ.
قولهُ: (وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ) لَا حِدَادَ عِنْدَنَا عَلَى كَافِرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا مَجْنُونَةٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَوْتِ الزَّوْجِ فَيَعُمُّ النِّسَاءَ كَالْعِدَّةِ.
قُلْنَا: يَجِبُ الْحِدَادُ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَهَا الزَّوْجُ بِتَرْكِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا تَرْكُهُ فَلَا يُخَاطَبُ هَؤُلَاءِ بِهِ، وَلِذَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الْحَدِيثَ.
قولهُمْ كَمَا تَعُمُّ الْعِدَّةُ عَلَيْهِنَّ.
قُلْنَا: الْعِدَّةُ قَدْ تُقَالُ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنْ الْحُرُمَاتِ الْخَاصَّةِ وَعَلَى نَفْسِ الْحُرُمَاتِ وَعَلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ بِتَحْقِيقِهِ، وَالْعِدَّةُ اللَّازِمَةُ لَهُنَّ بِكُلٍّ مِنْ الْمَفْهُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ يَثْبُتُ شَرْعًا عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا بَاشَرَهُ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَبْلَهَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَلَا خِطَابَ لِلْعِبَادِ فِيهِ تَكْلِيفِيٌّ بَلْ هُوَ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا عَنْ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ فَإِنَّهُ فِعْلُهَا الْحِسِّيِّ مَحْكُومٌ بِحُرْمَتِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ اكْتَحَلْنَ أَوْ لَبِسْنَ الْمُزَعْفَرَ أَوْ اخْتَضَبْنَ لَا يَأْثَمْنَ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ.
نَعَمْ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْكَافِرَةِ فِي الْعِدَّةِ خِطَابُ عَدَمِ التَّزَوُّجِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، فَإِنَّ فِي الْعِدَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى جِهَتَيْنِ.
قولهُ: (وَعَلَى الْأَمَةِ الْحِدَادُ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فِي الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَكَذَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ لِثُبُوتِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ فِي الْإِحْدَادِ فَوَاتُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقُلْنَا: لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا كَيْ لَا يَفُوتَ حَقُّهُ فِي اسْتِخْدَامِهَا، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِإِذْنِهِ لِفِنَاهُ، قَالَ تعالى: {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَجَبَ الْحِدَادُ لِعِلَّةِ فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ لَوَجَبَ بَعْدَ شِرَاءِ الْمَنْكُوحَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَمْ تَفُتْ لِقِيَامِ الْحِلِّ وَالْكِفَايَةِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ أَحَطَّ مِنْ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِلَا دَعْوَةٍ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَحَطِّيَّةِ فَإِنَّ نِعْمَةَ النِّكَاحِ لَيْسَ فَوَاتُهَا مُؤَثِّرًا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْخُصُوصِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا فِيهَا مِنْ أَنَّهَا سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَفُتْ فَلَا مُوجِبَ لِلْحِدَادِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إشْكَالُ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْأَدْنَى وَهُوَ هَذَا الْحِلُّ عَنْ الْأَعْلَى وَالتَّقَصِّي عَنْهُ بِالْتِزَامِ وُجُوبِ الْحِدَادِ عَلَى الزَّوْجَةِ الْمُشْتَرَاةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِكَوْنِهَا حَلَالًا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا ظَهَرَ فَإِنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلْ دَلِيلُ نَفْيِهَا أَنَّهُ وُجُوبٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ لَهَا الزِّينَةَ وَالتَّطَيُّبَ بَعْدَ شِرَائِهَا وَالْوُجُوبُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إحْدَادٌ) لِأَنَّهَا مَا فَاتَهَا نِعْمَةُ النِّكَاحِ لِتُظْهِرَ التَّأَسُّفَ، وَالْإِبَاحَةُ أَصْلٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا أَوْ إعْتَاقِهَا حِدَادٌ) وَكَذَا الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ وَالْمَنْكُوحَةُ فَاسِدًا لِأَنَّهُنَّ مَا فَاتَهُنَّ نِعْمَةُ النِّكَاحِ (وَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ) أَيْ إبَاحَةُ الزِّينَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزُولُ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْكُفْرِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّرُورِ لَا الْأَسَفِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ ظَاهِرٌ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَوَاتُ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ لِلْإِحْدَادِ عِلَّةً أُخْرَى وَهُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَوَاعِيَ الرَّغْبَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ وَهَذِهِ مَوْجُودَةٌ هُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحِدَادُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ كَوْنَهُمَا مَمْنُوعَتَيْنِ عَنْ النِّكَاحِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحِدَادِ لَا عِلَّتُهُ.
بَلْ عِلَّتُهُ فَوَاتُ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، كَذَا قِيلَ وَهُوَ بِالضَّعِيفِ جَدِيرٌ.
وَفِي النِّهَايَةِ: تِلْكَ حِكْمَةٌ لَا عِلَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَرَانِ وُجُوبِ الْإِحْدَادِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ لَا الْحِكْمَةِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْطَبَ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ) لِقولهِ تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلَى أَنْ قَال: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقولوا قولا مَعْرُوفًا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «السِّرُّ النِّكَاحُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّعْرِيضُ أَنْ يَقول: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقول الْمَعْرُوفِ: إنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ نَجْتَمِعَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ) أَرَادَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إذْ التَّعْرِيضُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُطَلَّقَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا أَصْلًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعْرِيضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَلِإِفْضَائِهِ إلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ وَالتَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ لِقول ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} يَقول: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أَوْ وَدِدْت أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ، وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقول: إنَّك عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {إلَّا أَنْ تَقولوا قولا مَعْرُوفًا} قَالَ يَقول إنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَى لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالتَّزَوُّجِ وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوَهُ إنَّك لَجَمِيلَةٌ أَوْ صَالِحَةٌ، وَلَا يُصَرِّحُ بِنِكَاحِهَا فَلَا يَقول: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَك أَوْ أَتَزَوَّجَك.
وَسَبْكُ الْآية: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ لَهُنَّ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِإِرَادَةِ نِكَاحِهِنَّ {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} أَيْ أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَمْ تَنْطِقُوا بِهِ تَعْرِيضًا وَلَا تَصْرِيحًا {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} فَاذْكُرُونَهُنَّ {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أَيْ نِكَاحًا فَلَا تَقولوا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَسُمِّيَ النِّكَاحُ سِرًّا لِأَنَّهُ سَبَبُ السِّرِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ مِمَّا يُسَرُّ، وَحَدِيثُ «السِّرُّ النِّكَاحُ» الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ غَرِيبٌ {إلَّا أَنْ تَقولوا قولا مَعْرُوفًا} وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَعَلَّقُ بِلَا تُوَاعِدُوهُنَّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقول الْمَعْرُوفَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي السِّرِّ وَالِاسْتِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي أَبْرَزْنَا صُورَتَهُ وَهُوَ فَاذْكُرُوهُنَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ وَلَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا) أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقولهِ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ، وَقِيلَ الزِّنَا، وَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ نَهَارًا لِطَلَبِ الْمَعَاشِ، وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ دَارَةٌ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ: إنَّهَا تَخْرُجُ نَهَارًا، وَقِيلَ لَا تَخْرُجُ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَبَعْضَ اللَّيْلِ) يَخُصُّهُ مِنْ التَّعْلِيلِ قولهُ وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَا بَأْسَ أَنْ تَغِيبَ عَنْ بَيْتِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهَا الْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَالْبَيْتُوتَةُ هِيَ الْكَيْنُونَةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ نَقَلَهُ فِي الْكَافِي، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَهُ مَا يَنْفِي اخْتِيَارَ صِحَّتِهَا وَهُوَ قولهُ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهَا وَعَسَى لَا تَجِدُ مَنْ يَكْفِيهَا مَئُونَتَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِنَفَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ الْمَعَاشِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ عَادَةً دُونَ اللَّيَالِي فَأُبِيحَ الْخُرُوجُ لَهَا بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي انْتَهَى.
وَيُعْرَفُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَيْضًا أَنَّهَا إذَا كَانَ لَهَا قَدْرُ كِفَايَتِهَا صَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَةٍ وَنَحْوِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَدَارَ الْحَلِّ كَوْنُ غَيْبَتِهَا بِسَبَبِ قِيَامِ شُغْلِ الْمَعِيشَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَمَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهَا لَا يَحِلُّ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَرْفُ الزَّمَانِ خَارِجَ بَيْتِهَا.
قولهُ: (أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقولهِ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} الْآيَةَ) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَهْيِ الْأَزْوَاجِ عَنْ إخْرَاجِهِنَّ غَضَبًا عَلَيْهِنَّ وَكَرَاهَةً لِمُسَاكَنَتِهِنَّ أَوْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الْمَسَاكِنِ، وَعَلَى نَهْيِ الْمُطَلَّقَاتِ عَنْ الْخُرُوجِ وَنَهْيُهُنَّ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أُوْقِعَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ {إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ: الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقِيلَ الزِّنَا، فَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ قول ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ نُشُوزُهَا وَأَنْ تَكُونَ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ عَلَى أَحْمَائِهَا.
وَقول ابْنِ مَسْعُودٍ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إلَّا أَنَّ غَايَةٌ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَايَةً لِنَفْسِهِ وَمَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ أَبْدَعُ وَأَعْذَبُ فِي الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْخَطَّابِيَّاتِ لَا تَزْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقًا، وَلَا تَشْتُمْ أُمَّك إلَّا أَنْ تَكُونَ قَاطِعَ رَحِمٍ وَنَحْوَهُ، وَهُوَ بَدِيعٌ بَلِيغٌ جِدًّا يَخْرُجُ إظْهَارُ عُذُوبَتِهِ عَنْ غَرَضِنَا.
قولهُ: (حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ: تَخْرُجُ نَهَارًا) لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَاجُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا.
وَقِيلَ: لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْ النَّفَقَةَ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاخْتِيَارُ فِي إبْطَالِ حَقٍّ عَلَيْهَا، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَصَحَّحَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ، وَهَذَا كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا فَإِنَّ مَئُونَةَ السُّكْنَى تَبْطُلُ عَنْ الزَّوْجِ وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَكْتَرِيَ بَيْتَ الزَّوْجِ، وَأَمَّا أَنْ يَحِلَّ لَهَا الْخُرُوجُ فَلَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَنْظُرَ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ عَلِمَ فِي وَاقِعَةٍ عَجْزَ هَذِهِ الْمُخْتَلِعَةِ عَنْ الْمَعِيشَةِ إنْ لَمْ تَخْرُجْ أَفْتَاهَا بِالْحِلِّ وَإِنْ عَلِمَ قُدْرَتَهَا أَفْتَاهَا بِالْحُرْمَةِ.

متن الهداية:
(وَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَالْمَوْتِ) لِقولهِ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلِهَذَا لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّتِي قُتِلَ زَوْجُهَا «اُسْكُنِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» (وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ دَارِ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهَا فَأَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ نَصِيبِهِمْ) انْتَقَلَتْ، لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ بِعُذْرٍ، وَالْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَعْذَارُ فَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ خَافَتْ سُقُوطَ الْمَنْزِلِ أَوْ كَانَتْ فِيمَا بِأَجْرٍ وَلَا تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُضَافَ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَالزَّوْجُ مَعَهَا أَوْ لَا فَطَلَّقَهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا ذَلِكَ فَتَعْتَدَّ.
قولهُ: (وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَأْيِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ بِأَنَّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا: إنَّهُ مَدْلُولُ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ عَنْ ذَرِيعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، قَالَ: اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ» انْتَهَى.
وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِهِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الْإِسْنَادِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ.
وَهُمَا اثْنَانِ: سَعِيدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ أَشْهُرُهُمَا وَإِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ كَعْبٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُمَا الْجَهَالَةُ انْتَهَى.
وَقول ابْنِ حَزْمٍ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبٍ مَجْهُولَةٌ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَهَا غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ دَفَعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ إِسْحَاقَ ثِقَةٌ وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَزَيْنَبُ كَذَلِكَ ثِقَةٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي تَصْحِيحِهِ تَوْثِيقُهُمَا، وَلَا يَضُرُّ الثِّقَةُ أَنْ لَا يَرْوِيَ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ» فَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَمَحْبُوبُ بْنُ مُحْرِزٍ أَيْضًا ضَعِيفٌ وَعَطَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مُخْتَلِطٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ أَضْعَفُهُمْ، فَلِذَلِكَ أَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِهِ.
وَذِكْرُ الْجَمْعِ أَصْوَبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قولهُ: (وَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا اللُّصُوصَ إلَخْ) أَيْ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ.
وَإِذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلٍ لِلْعُذْرِ صَارَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَتَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّوْجِ وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مُسْتَبِدَّةٌ فِي أَمْرِ السُّكْنَى حَتَّى أَنَّ أُجْرَةَ الْمَنْزِلِ إنْ كَانَ بِأَجْرٍ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ فِيهِ إلَّا أَنْ لَا تَجِدَ الْكِرَاءَ وَتَجِدَ مَا هُوَ بِلَا كِرَاءٍ فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ إلَيْهِ، وَكَذَا فِي الزَّوْجِ الْغَائِبِ، وَلَا تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا مَنَازِلُ الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ كَالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ، وَلِهَذَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ مَنَازِلُ بَلْ بُيُوتٌ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى صَحْنِهَا وَلَا تَصِيرُ بِهِ خَارِجَةً عَنْ الدَّارِ وَتَبِيتُ فِي أَيِّ بَيْتٍ شَاءَتْ مِنْهَا.

متن الهداية:
(ثُمَّ إنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ بِالْحُرْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَلَا تَخْرُجُ عَمَّا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَيَتْرُكَهَا (وَإِنْ جَعَلَا بَيْنَهُمَا امْرَأَةً ثِقَةً تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِمَا الْمَنْزِلُ فَلْتَخْرُجْ، وَالْأَوْلَى خُرُوجُهُ).
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ كَيْ لَا تَقَعَ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَذَا هَذَا فِي الْوَفَاةِ إذَا كَانَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا.
ثُمَّ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاكَنَةِ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْحِجَابِ اكْتِفَاءً بِالْحَائِلِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فَلَا يَقْدَمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْخُرُوجَ، الْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ تَرَجَّحَ الْمُحَرِّمُ أَوْ فَالْمُحَرِّمُ أَوْلَى، وَيُرَادُ مَا قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا أَوْلَوِيَّةَ خُرُوجِهِ بِأَنَّ مُكْثَهَا وَاجِبٌ لَا مُكْثَهُ، وَمَتَى انْتَقَلَتْ فَتَعْيِينُ الْمَكَانِ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.

متن الهداية:
(وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ الْخُرُوجِ مَعْنًى بَلْ هُوَ بِنَاءٌ (وَإِنْ كَانَتْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلِيٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُكْثَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَخْوَفُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُرُوجِ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ ثُمَّ تَخْرُجَ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدَّ) لَهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ دَفْعًا لِأَذَى الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الْوَحْدَةِ فَهَذَا عُذْرٌ، وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ لِلسَّفَرِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ بِالْمُحْرِمِ.
وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ أَمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ عَدَمِ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مُحْرِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَدَّةِ ذَلِكَ، فَلَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ إلَى السَّفَرِ بِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فَفِي الْعِدَّةِ أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ (وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا) الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ بِهَا فَطَلَّقَهَا فَإِمَّا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا؛ فَفِي الرَّجْعِيِّ تَتْبَعُ زَوْجَهَا حَيْثُ مَضَى لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ، فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ إلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ لَا مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إنْشَاءُ سَفَرٍ.
وَخُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا دُونَ السَّفَرِ مُبَاحٌ إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ بِمُحَرَّمٍ وَبِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ، كَذَا فِي الدِّرَايَةِ.
وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا سَفَرٌ أَوْ دُونَهُ.
أَمَّا إنْ كَانَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَى مَقْصِدِ سَفَرٍ وَالرُّجُوعَ لَيْسَ بِسَفَرٍ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا دُونَهَا فَتَرْجِعُ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَمَا رَجَعَتْ تَصِيرُ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ تَكُونُ مُسَافِرَةً مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَقْصِدِ، فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ اسْتِدَامَةِ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ أَوْجُهٌ.
قولهُ: (وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) فَصَاعِدًا، فَإِذَا كَانَ دُونَهَا إلَى الْمَقْصِدِ لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا الذَّهَابُ إلَى الْمَقْصِدِ.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ: إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ: أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا.
وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ فَتَتَخَيَّرُ وَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ عَلَى مَا فِي الْكَافِي.
وَعَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَفَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ فَتَخْتَارُ مَا دُونَهُ لِأَنَّهَا بِاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ مُنْشِئَةً سَفَرًا دُونَ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَفَرًا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ مِصْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَفَازَةٍ فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِمَحْرَمٍ أَوْ لَا، لِأَنَّ مَا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَشَدُّ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْخُرُوجِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَخْتَارَ الرُّجُوعَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرٍ لَمْ تَخْرُجْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّ مَا يُخَافُ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَعْظَمُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْمِصْرِ فَكَانَ الْمُكْثُ فِي الْمِصْرِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ لَمْ تَخْرُجْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِدَّةِ وَقَالَا: تَخْرُجُ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا.
وَقولهُ الْآخَرُ أَظْهَرُ.
لَهُمَا أَنَّهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِمَحْرَمٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُطْلَقٌ لَهَا إجْمَاعًا لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ ضَرَرِ الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الِانْفِرَادِ.
وَمَتَى قُلْنَا: لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ فَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى السَّفَرِ بِالْمَحْرَمِ بَقِيَ مُجَرَّدُ الْخُرُوجِ وَهُوَ مُطْلَقٌ لِمَكَانِ الْغُرْبَةِ، إذْ الْغَرِيبُ يُؤْذَى وَيُهَانُ فَأَشْبَهَ الْمَفَازَةَ.
وَلَهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ، فَالْعِدَّةُ أَوْلَى، وَمَا دُونَ السَّفَرِ إنَّمَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ لَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ وَهِيَ هُنَا مُنْشِئَةٌ لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ، وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَحْرَمِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ كَانَتْ الْجِهَتَانِ مُدَّةَ سَفَرٍ فَمَضَتْ أَوْ رَجَعَتْ وَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ أَقَامَتْ فِيهِ وَاعْتَدَّتْ إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ وَجَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ، وَفِيهِ: الْبَدَوِيُّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَكَان آخَرَ، فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ تَضَرَّرَتْ فَلَهُ ذَلِكَ إذْ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ:

(وَمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) أَمَّا النَّسَبُ فَلِأَنَّهَا فِرَاشُهُ، لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعُلُوقُ قَبْلَهُ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ (وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا) لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنَّهَا تَكُونُ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ) وَثَبَتَ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ بَعْدَهُ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ كَانَتْ رَجْعَةً) لِأَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ الزِّنَا مِنْهَا فَيَصِيرُ بِالْوَطْءِ مُرَاجِعًا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ) أَعْقَبَهُ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ مِمَّا وَجَبَتْ لَهُ الْعِدَّةُ تَعَرُّفُ حَالِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَتَثْبُتُ مَوَاجِبُهُ وَعَدَمُهُ فَيَنْصَرِفُ كُلٌّ عَنْ الْآخَرِ فِي الْحَالِ: أَيْ فِي حَالِ مَعْرِفَةِ عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ.
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا) لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ (فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) يُرِيدُ مِنْ وَقْتِ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ قَرَنَ الْيَوْمَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِأَنَّهَا فِرَاشُهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ كَوْنِهَا فِرَاشًا لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْيَوْمِ الْوَقْتُ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَا بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطَفَ كَمَا قِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا آنٌ خَالٍ بَلْ أَوَّلُ آنَاتٍ تَعْقُبُ وُجُودَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِيهِ الْجَزَاءُ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى تَحَقُّقِ زَمَانٍ يَسَعُ التَّلَفُّظَ بِأَنْتِ طَالِقٍ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ ثُبُوتٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَنْ فَيَكُونُ الْعُلُوقُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَتَصَوُّرُ الْعُلُوقِ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا وَطْئًا وَسَمِعَ النَّاسُ كَلَامَهُمَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ، وَالْأَحْسَنُ تَجْوِيزُ أَنَّهُمَا وُكِّلَا بِهِ فَبَاشَرَ الْوَكِيلُ وَهُمَا كَذَلِكَ فَوَافَقَ عَقْدُهُ الْإِنْزَالَ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الثُّبُوتَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفِرَاشِ وَهُوَ يَثْبُتُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ الْمُقَارِنِ لِلْعُلُوقِ فَتَعَلَّقَ وَهِيَ فِرَاشٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَقَدْ يُقَالُ الْفِرَاشِيَّةُ أَثَرُ النِّكَاحِ: أَعْنِي الْعَقْدَ فَيَتَعَقَّبُهُ فَيَلْزَمُ سَبْقُ الْعُلُوقِ عَلَى الْفِرَاشِ.
نَعَمْ إذَا فُسِّرَ الْفِرَاشُ بِالْعَقْدِ كَمَا عَنْ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ السَّابِقَ لَهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْكَوْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعَقْدِ، إلَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْخَارِجِ وَكَلَامُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ.
وَتَقْرِيرُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الْعُلُوقَ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ مُقَارِنًا لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ حَاصِلًا قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ: يَعْنِي أَنَّ زَوَالَ الْفِرَاشِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مَعَهُ، لِأَنَّ زَوَالَهُ أَثَرُهُ.
لَا يُقَالُ مُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَدْ عَيَّنُوا الثُّبُوتَ نَسَبُهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ وَلَا أَقَلَّ.
لِأَنَّا نَقول: إنَّمَا لَمْ يُثْبِتُوهُ فِي الْأَقَلِّ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حِينَئِذٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ فَلِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِمَا يَسَعُ وَطْئًا بِالْفَرْضِ فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَفْيَهُمْ النَّسَبَ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهُوَ سَنَتَانِ، وَلَا مُوجِبَ لِلصَّرْفِ عَنْهُ يُنَافِي الِاحْتِيَاطَ فِي إثْبَاتِهِ وَاحْتِمَالِ كَوْنِهِ حَدَثَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ كَوْنُ الْحَمْلِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَرُبَّمَا تَمْضِي دُهُورٌ لَمْ يُسْمَعْ فِيهَا وِلَادَةٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ عَدَمُ حُدُوثِهِ وَحُدُوثُهُ احْتِمَالٌ، فَأَيُّ احْتِيَاطٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إذَا نَفَيْنَاهُ لِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ يَقْتَضِي نَفْيَهُ وَتَرْكُنَا ظَاهِرًا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبْعَدُ؟ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فَرَضُوهُ لِتَصَوُّرِ الْعُلُوقِ مِنْهُ لِيُثْبِتُوا النَّسَبَ وَهُوَ كَوْنُهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَطَؤُهَا وَسَمِعَ كَلَامَهُمَا النَّاسُ وَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ وَافَقَ الْإِنْزَالُ الْعَقْدَ، أَوْ احْتِمَالُ كَوْنِ الْحَمْلِ إذَا زَادَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْفَرْضِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ بَلْ قِيَامُ الْفِرَاشِ كَافٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ إمْكَانُ الدُّخُولِ بَلْ النِّكَاحُ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَمَا فِي تَزَوُّجِ الْمَشْرِقِيِّ بِمَغْرِبِيَّةٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْطٌ، وَلِذَا لَوْ جَاءَتْ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ فِي الْمَغْرِبِيَّةِ لِثُبُوتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالِاسْتِخْدَامَات فَيَكُونُ صَاحِبُ خُطْوَةٍ أَوْ جِنِّيًّا، وَأَمَّا لُزُومُ الْمَهْرِ كَامِلًا فَلِأَنَّهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ.
وَمَا قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَطْؤُهُ لِأَنَّ الْحَبَلَ قَدْ يَكُونُ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ الْفَرْجَ دُونَ جِمَاعٍ فَنَادِرٌ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ هُوَ الْمُعْتَادُ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، أَمَّا النِّصْفُ فَلِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِلدُّخُولِ انْتَهَى.
وَعِبَارَةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي عَلَى مَا نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَمَهْرٌ آخَرُ بِالدُّخُولِ، قَالَ: إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ وَاشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِلْمُتَأَمِّلِ لَا تُوجِبُ قولهُ بِلُزُومِ مَهْرٍ وَنِصْفٍ، بَلْ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا تُسَوَّغُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ.
وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِأَنَّ الْوَطْءَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِ عِصْمَةٍ وَلَا عِدَّةٍ، بَلْ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ أَوْ لِلنِّكَاحِ، فَأَقَلُّ الْأَمْرِ كَوْنُهُ قَبْلَهُ أَوْ لَا مُشْتَبِهٌ ذَلِكَ وَضَمِيرُ: بِهِ. فِي قولهِ (فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ) لِثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ إمْكَانَ الدُّخُولِ وَتَصَوُّرُهُ لَيْسَ إلَّا بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَزَوُّجِهَا حَالَ وَطْئِهَا الْمُبْتَدَإِ بِهِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ حُكِمَ فِيهِ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ فِي صَرِيحِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ كَوْنُ مَا ذَكَرَ مُطْلَقًا وَمَنْسُوبًا وَقَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي حَالِ مَا يَطَؤُهَا عَلَيْهِ مَهْرَانِ: مَهْرٌ بِالزِّنَا لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَمَهْرٌ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ الْخَلْوَةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْصِنًا مُشْكِلًا لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَذْهَبِ، وَأَيْضًا الْفِعْلُ وَاحِدٌ، وَقَدْ اتَّصَفَ بِشُبْهَةِ الْحِلِّ فَيَجِبُ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَنَسِيَ فَتَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا حَيْثُ يَجِبُ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْوَطْءِ، أَمَّا هُنَا الطَّلَاقُ مَعَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي فِعْلٍ مُتَّحِدٍ فَصَارَ الْفِعْلُ كُلُّهُ لَهُ شُبْهَةُ الْحِلِّ وَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ.
وَفِي شَرْحِ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِمَا، قَالَ: قَدْ كُنْت أَفْتَيْت بِالْوُجُوبِ عَلَى الْحَالِفِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَمَنْ مَالَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَرِثَهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَصْحَابِنَا وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَبْقَ بِنِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ النَّسَبُ.
قولهُ: (وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ) وَلَوْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ (مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا) فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ بِأَنْ تَكُونَ سِتِّينَ يَوْمًا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَتِسْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا عَلَى قولهِمَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَظْهَرُ كَذِبُهَا، وَكَذَا هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا ادَّعَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ انْقِضَاءَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ.
أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيِّ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِزِنَاهَا أَوْ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ لِجَوَازِ كَوْنِهَا مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ بِأَنْ امْتَدَّ إلَى مَا قَبْلَ سَنَتَيْنِ مِنْ مَجِيئِهَا بِهِ أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ وَطِئَهَا فَحَبِلَتْ، وَعَنْ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَكُونُ زَوْجَةً بِالرَّجْعَةِ الْكَائِنَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا تَثْبُتُ رَجْعَتُهَا، فَإِنَّ الْعُلُوقَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِصْمَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَإِحَالَةُ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ آخَرُ، وَالظَّاهِرُ الْوَطْءُ فِي الْعِصْمَةِ لَا الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، وَمَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَرْجَحُ مِنْ إضَافَةِ الْحَادِثِ إلَى الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي الرَّجْعَةِ وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ أَيْضًا فِيهَا، إذْ مُعْتَادُ النَّاسِ فِي الرَّجْعَةِ أَنْ يُرَاجِعُوا بِاللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: هُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ كَوْنُهَا تَزَوَّجَتْ وَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ.
قُلْنَا: الْفَرْضُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمَا لَمْ تُقِرَّ بِذَلِكَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ تَزَوُّجُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ فِيهِ إنْشَاءُ نِكَاحٍ وَإِبْقَاءُ الْأَوَّلِ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ.

متن الهداية:
(وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ قَبْلَ الْعُلُوقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا، (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ) لِأَنَّ الْحَمْلَ حَادِثٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَرَامٌ. قَالَ: (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ.
وَلَهُ وَجْهٌ بِأَنْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ (فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَى سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ.
وَلَهُمَا أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةً مُتَعَيِّنَةً وَهُوَ الْأَشْهُرُ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ وَاطِئًا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرُ ثُمَّ تَأْتِي لِأَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سَنَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْكَبِيرَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْحَمْلِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ) نَسَبُهُ لِتَيَقُّنِ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَوَطْؤُهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ حَرَامٌ.
قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَقْطَعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَيْضًا وَهِيَ قولهُ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ فَإِنَّ فِيهَا أُلْحِقَتْ السَّنَتَانِ بِأَقَلَّ مِنْ السَّنَتَيْنِ حَتَّى إنَّهُمْ أَثْبَتُوا النَّسَبَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ صِحَّةَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، فَأَمَّا قولهُ: إنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ إلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ لَا يَمْكُثُ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ إلَّا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ حَالَ قِيَامِ الْفِرَاشِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْرِيرِ قَاضِي خَانْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قولهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَهُوَ مُفَرِّغٌ لِلْمُتَعَلِّقِ: أَيْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي هِيَ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ، وَلَهُ وَجْهٌ وَهُوَ كَوْنُهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْهُ وَقَدْ ادَّعَاهُ وَلَا مُعَارِضَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ الِاشْتِرَاطُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الشَّامِلِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي ضَعْفِهَا وَغَرَابَتِهَا.
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ هَذِهِ مُنَاقَضَةً لِمَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُبَانَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، وَنَصَّ فِي التَّبْيِينِ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ بِالثَّلَاثِ إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ كَانَتْ شُبْهَةُ الْفِعْلِ، وَفِيهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَالٍ، وَبِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَلَى الْمَبْتُوتَةِ بِالْكِنَايَاتِ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ.
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً، وَالْمَذْكُورُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ ثَلَاثٍ لَا تَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِالْمُعْتَدَّةِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ مَثَلًا بِأَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَرِّحَ بِدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْمَقْبُولَةِ غَيْرَ مُجَرَّدِ شُبْهَةِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحُدُودِ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْبَائِنَةَ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، فَجُعِلَ هَذَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا جَاءَتْ بِهِ مُطْلَقًا فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَّا إذَا ادَّعَى الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ أَفَادَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَ ذَلِكَ إمْكَانُ صِحَّتِهِ بِكَوْنِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ سِوَاهُ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَيَجِبُ أَنْ تَرُدَّ نَفَقَتُهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ: لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ.
لَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ دُونَ الزِّنَا وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَحَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَحِينَئِذٍ أَخَذَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فَتَرُدُّهُ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقول هِيَ فِي الْعِدَّةِ وَلِذَا لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَكَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ.
وَلَوْ جَاءَتْ الْمَبْتُوتَةُ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اعْتَبَرَاهُ بِمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ فَادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَيُنْقَضُ الْبَيْعُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ.
قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ.
وَلَيْسَ وَلَدُ الْجَارِيَةِ نَظِيرَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَجُوزُ كَوْنُهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قَبْلَ بَيْعِهِ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْمَبْتُوتَةِ.
وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبَاقِيهِ لِأَكْثَرَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ نِصْفَ بَدَنِهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ أَكْثَرُ الْبَدَنِ لِأَقَلَّ وَالْبَاقِي لِأَكْثَرَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
وَفِي شَرْحِ التَّكْمِلَةِ: تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهُ وَلَدُهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ وَلَدُ النِّكَاحِ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي يُضَافُ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَلَالٌ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةُ بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ وَطْأَهَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْ النِّكَاحِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ طَلَّقَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا وَأَنْ لَا يُتَصَوَّرَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مُقَيَّدٌ بِأَحَدِ أُمُورٍ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إمَّا شَهَادَةٌ بِالْوِلَادَةِ، أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ، أَوْ حَبَلٌ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ.
قولهُ: (فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا إلَخْ) قِيلَ: هُوَ مُسْتَدْرَكٌ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ دَلِيلُ أَنَّهُ يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَمَنْعَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَبَلَ يَكُونُ بِلَا جِمَاعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبُلُوغِ، وَبَعِيدٌ أَنْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَالِغَةُ الْجِمَاعَ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا طَلُقَتْ فَإِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِتَلْزَمَ الْعِدَّةُ بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِالدُّخُولِ لِلْحُكْمِ بِالْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، فَإِنْ أَقَرَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِقْرَارِهَا، وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ قَبْلَهَا لِيُتَيَقَّنَ بِكَذِبِهَا، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَإِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي الرَّجْعِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي آخِرِ عِدَّتِهَا الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَعَلِقَتْ سَنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا يَقْتَصِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنْ طَالَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ لِجَوَازِ امْتِدَادِ طُهْرِهَا وَوَطْئِهِ إيَّاهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا يَحْتَمِلُ كَوْنُهَا حَامِلًا لِفَرْضِ أَنَّهَا فِي سِنٍّ يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُهَا لِأَنَّهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ فِي احْتِمَالِ حُدُوثِ الْعُلُوقِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى سَنَتَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ مَا قَدَّمَهُ فِي الْكَبِيرَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ أَنْ يَقول إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ هُنَا.
وَجْهُ قولهِمَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّةِ الصَّغِيرَةِ جِهَةً وَاحِدَةً فِي الشَّرْعِ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا بِالِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلْفَ وَعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، بِخِلَافِ إقْرَارِهَا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يُجْعَلَ انْقِضَاؤُهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَكَذَلِكَ هُنَا، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا بِالْحَبَلِ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا.

متن الهداية:
(وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا بَيْنَ الْوَفَاةِ وَبَيْنَ السَّنَتَيْنِ) وَقَالَ زُفَرُ: إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّغِيرَةِ إلَّا أَنَّا نَقول لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةٌ أُخْرَى وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَمْلِ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَفِيهِ شَكٌّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَا بَيْنَ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ وَقَالَ زُفَرٌ: إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ) وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَوَجْهُهُ كَوَجْهِهِمَا فِي الصَّغِيرَةِ وَهُوَ أَنَّ لِعِدَّتِهَا جِهَةً وَاحِدَةً هِيَ انْقِضَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِذَا لَمْ تُقِرَّ قَبْلَهَا بِالْحَبْلِ فَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْقِضَائِهَا بِهَا، فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَهَا لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ عَلَى مَا عُرِفَ وَيُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّهَا بَلْ لَهَا كُلٌّ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَبَلِ فَتَسْتَمِرُّ مَا لَمْ تَعْتَرِفْ بِالْحَبَلِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اعْتَرَفَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ) لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ بَعْدَهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اعْتَرَفَتْ) ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ كَوْنَ الْحَمْلِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَمِينَاتٌ شَرْعًا فِي إخْبَارِهِنَّ عَنْ عِدَّتِهِنَّ، فَإِذَا أَخْبَرْنَ لَزِمَ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَطْعًا.
وَقولهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ لِعَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ وَوَفَاةٍ، وَمِمَّا يَشْمَلُ أَيْضًا الْآيِسَةُ إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ أَوْ الْبَائِنِ فَهِيَ كَذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي الْبَائِنِ وَأَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرَّجْعِيِّ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا مُفَسَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مُطْلَقًا فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَقْرَاءِ لَمَّا بَطَلَ الْيَأْسُ.
هَذَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْآيِسَةَ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَإِذَا وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَرْغِينَانِيّ.

متن الهداية:
(وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ فِي الْجَمِيعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَهُوَ مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً فَيُشْتَرَطُ كَمَالُ الْحُجَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ظَهَرَ الْحَبَلُ أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعَيُّنَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا (فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُهُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ فِيهِ تَصْدِيقُهُمْ، أَمَّا فِي حَقِّ النَّسَبِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.
قَالُوا: إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ وَلِهَذَا قِيلَ: تُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ لَا تُشْتَرَطُ لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ، وَمَا ثَبَتَ تَبَعًا لَا يُرَاعَى فِيهِ الشَّرَائِطُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) أَوْ يُعْلَمَ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ يَكُونَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَهَادَةٍ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَشْمَلُ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ وَعَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ فَيُوَافِقُ تَصْرِيحَ قَاضِي خَانْ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي الرَّجْعِيِّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَيَّدَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقًا بَائِنًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوِلَادَةَ وَالْحَبَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النَّسَبُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَنَحْوَهُ فَعَلَ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ حَيْثُ قَالَ: شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِمُؤَيِّدٍ إلَى قولهِ حَتَّى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ إذَا كَذَّبَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَفِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى قَيْدِ إنْكَارِ الزَّوْجِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ إنْكَارُ الْوِلَادَةِ وَالْحَبَلِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ وَيَرِثُ بِذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى قولهِمَا عِنْدَ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ حَقًّا عَلَى الْغَيْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ قِيَاسًا عَلَى الْعَدَدِ.
وَقولهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوَّلًا أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ أَوَّلًا وَهَلْ يُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَلَا يَفْسُقُ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُ يَثْبُتُ تَعْيِينُ الْوَلَدِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالنَّسَبُ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُتَّجَهُ تَقْيِيدُ الْخِلَافِ بِالْبَائِنِ كَمَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَيَكُونُ الرَّجْعِيُّ كَالْعِصْمَةِ الْقَائِمَةِ حَتَّى حَلَّ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَبِقولهِمَا قَالَ أَحْمَدُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى امْرَأَتَانِ.
وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ (وَهُوَ) أَيْ الْفِرَاشُ (مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ) فِيمَا تَأْتِي بِهِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ (وَالْحَاجَةُ إلَى) شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ (لِتَعْيِينِ الْوَلَدِ) فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْجَامِعُ قِيَامُ الْفِرَاشِ (وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ) فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَالْفِرَاشُ الْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِيَصْلُحَ مُؤَيِّدًا لِلْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ: أَعْنِي شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَةً إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ بِكَمَالِ النِّصَابِ عَلَى وِلَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ بِفِرَاشِيَّتِهَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا قَبْلَ دَعْوَاهَا أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا وَقْتَ دَعْوَاهَا الْوِلَادَةَ، لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ، وَقِيَامُ الْحَمْلِ ظَاهِرًا أَوْ اعْتِرَافًا، وَكَذَا قِيَامُ الْفِرَاشِ يُؤَيِّدُ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِهِ، وَقولهُمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَمْنُوعٌ بَلْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ بِحَضْرَتِهِمْ بَيْتًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَ الْوَلَدِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ بَلْ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ تَسْتَلْزِمُ فِسْقَهُمْ فَلَا تُقْبَلُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَقِيقَةَ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ عَادَةً كَالْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هَلْ تَكْفِي لِلْإِثْبَاتِ أَوْ لَا بُدَّ أَنْ تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ.
وَلَهُمَا فِيهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ لِأَنَّهُ جِنْسٌ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَاهُ فَتَمَامُهُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَهُوَ يَدْفَعُهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِهَا مَعَ مُؤَيِّدٍ جَوَازُهَا بِدُونِهِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا فِي الِاسْتِهْلَالِ وَامْرَأَتَانِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. وَهَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ قول الرَّاوِي مَضَتْ السُّنَّةُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ الرَّفْعَ إذَا كَانَ صَحَابِيًّا وَهُوَ هُنَا لَيْسَ صَحَابِيًّا، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيِّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ»، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَعْمَشِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَايِنِيُّ فَقَدْ تَظَافَرَا وَقَوِيَ مَا هُوَ حُجَّةٌ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَادَّعَتْ الْوِلَادَةَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ فِي قولهِمْ جَمِيعًا، وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ تَصْدِيقُهُمْ فِيهِ، أَمَّا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَيِّتِ لِيَظْهَرَ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.
قَالُوا: إذَا كَانُوا أَيْ الْوَرَثَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا أَوْ ذُكُورًا مَعَ إنَاثٍ وَهُمْ عُدُولٌ ثَبَتَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ فَيُشَارِكُ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ وَالْمُنْكَرِينَ وَيُطَالِبُ غَرِيمَ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ: يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ: أَيْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ مِنْ الْوَرَثَةِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ.
وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا يُرَاعَى لِلتَّبَعِ شَرَائِطُهُ إذَا ثَبَتَ أَصَالَةً، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) لِأَنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ وَالْمُدَّةُ تَامَّةٌ (فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَشْهَدُ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِهِ (فَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُك مُنْذُ أَرْبَعَةٍ وَقَالَتْ هِيَ: مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقول قولهَا وَهُوَ ابْنُهُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا فَإِنَّهَا تَلِدُ ظَاهِرًا مِنْ نِكَاحِ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْلَافَ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا ثَبَتَ، وَلَا إشْكَالَ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ، وَكَذَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ السِّتَّةِ بِلَا زِيَادَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَاطِئًا لَهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَبْتُوتَةِ حَيْثُ نُفِيَ نَسَبُ مَا أَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مَعَ تَصْحِيحِهِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا حَالَ جِمَاعِهَا وَصَادَفَ الْإِنْزَالُ الطَّلَاقَ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَا لَا هُنَاكَ لِحَمْلِ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ، إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ زَوْجٍ فَتَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الثُّبُوتِ هُنَاكَ لِلشَّكِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ نِسْبَةَ فَسَادٍ إلَيْهَا لِجَوَازِ كَوْنِ عِدَّتِهَا انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ.
وَحَاصِلُ هَذَا رَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ هُنَاكَ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ هُنَا، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ مَعَ الِاحْتِيَاطِ.
قولهُ: (فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ) يَعْنِي فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَعِنْدَهُ لِتَأَيُّدِهَا بِقِيَامِ الْفِرَاشِ، حَتَّى لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ شَهَادَتِهَا لَاعَنَ وَلَا يَكُونُ هَذَا اللِّعَانُ لَزِمَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ لِيَلْزَمَ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ هُنَا، وَأَيْضًا يَلْزَمُ خَطَأُ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا النَّسَبُ وَأَثْبَتَ بِهَا اللِّعَانَ، بَلْ اللِّعَانُ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ لَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِهِ وُجُودَ الْوَلَدِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ، وَإِنْ اتَّفَقَ هُنَا وُقُوعُهُ فِي ضِمْنِ النَّفْيِ.
قولهُ: (وَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا)، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُك لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَالَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقول لَهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا وَهُوَ أَنَّهُ وَلَدٌ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلَا مِنْ زَوْجٍ تَزَوَّجَتْ بِهَذَا الزَّوْجِ فِي عِدَّتِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَهُوَ إضَافَةُ الْحَادِثِ وَهُوَ النِّكَاحُ هُنَا إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي ثُبُوتِ نَسَبٍ قُدِّمَ الْمُثْبِتُ لَهُ لِوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُتَأَيَّدٌ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ مُبَاشَرَتِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِلَتْ مِنْ زِنًا وَإِنْ صَحَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ثُمَّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَزَوُّجُهَا حَامِلًا بِثَابِتِ النَّسَبِ لِيَكُونَ إقْرَارًا بِالْفَسَادِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ لِجَوَازِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زِنًا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ حَيْثُ أَثْبَتَ النَّسَبَ، وَالشَّرْعُ إذَا كَذَّبَ الْإِقْرَارَ يَبْطُلُ.
قولهُ: (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ مُحَمَّدٌ (الِاسْتِحْلَافَ) أَيْ اسْتِحْلَافَهَا وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَعِنْدَهُمَا تُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُ لَا تُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَطْلُقُ) لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ تَقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّ الْوِلَادَةِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهَا (وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ لَدَعْوَاهَا الْحِنْثَ، وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيُقْبَلُ قولهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ) وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهَا وَلَمْ يَكُنْ حَبَلُهَا ظَاهِرًا وَلَا أَقَرَّ هُوَ بِهِ (لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَكِنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ.
وَقَالَا تَطْلُقُ أَيْضًا لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي ثُبُوتِ وِلَادَتِهَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً مَقْبُولَةً فِيهَا تُقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قولهُ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ وَجْهًا آخَرَ بَلْ هُوَ تَمَامُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصَارَتْ كَثُبُوتِ الْأُمُومَةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ بِأَمَتِي هَذِهِ حَمْلٌ فَهُوَ مِنِّي، فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقول لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنْكَرَ وِلَادَتَهَا فَشَهِدَتْ بِهَا امْرَأَةٌ، وَكَثُبُوتِ اللِّعَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي أَوَلَدْتِيهِ أَمْ لَا فَشَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ وَزَوَالَ مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَلَازَمَهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ فَقُبِلَتْ فِيهَا وَثَبَتَ النَّسَبُ وَأُمُومَةُ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمُهُ اللَّازِمُ شَرْعًا، أَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَذْفِ وَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَيْسَ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ قُبِلَ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا يَثْبُتُ تَمَجُّسُ الذَّابِحِ، وَكَقولهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ، فَقَالَتْ حِضْت طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ هُمَا حُكْمَانِ مُقْتَرِنَانِ.
وَيُمْكِنُ جَعْلَ هَذَا إشْكَالًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ طَلَاقَهَا هِيَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَهُوَ لَيْسَ لَازِمًا شَرْعِيًّا لِحَيْضِهَا بَلْ لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ حُرْمَةُ قُرْبَانِهَا فَقَدْ ثَبَتَ بِقولهَا لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ وَلَازِمُهُ الْجَعْلِيُّ الْمُنْفَكُّ وَهُوَ حِنْثُهُ وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ بِلَا شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ لِدَعْوَاهَا الْحِنْثَ وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ.
(وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ) لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُبْلَى تَلِدُ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِي إخْبَارِهَا بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حَامِلٌ فَيُقْبَلُ قولهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ كَمَا إذَا عُلِّقَ بِحَيْضِهَا فَقَالَتْ: حِضْت، فَإِذَنْ ظَهَرَ الْفَرْقُ الدَّافِعُ لِلْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ إنْ كَانَ بِمَا هُوَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ بَعْدَهُ وَعِلْمُهُ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا بِحَيْضِهَا وَبِوِلَادَتِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِحَبَلِهَا أَوْ بِظُهُورِ حَبَلِهَا كَانَ الْتِزَامًا لِتَصْدِيقِهَا عِنْدَ إخْبَارِهَا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِوِلَادَتِهَا قَبْلَ الِاعْتِرَافِ بِحَبَلِهَا سَابِقًا وَلَا ظُهُورَ لِحَبَلٍ حَالَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ إنْكَارِهِ إلَى الْحُجَّةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ) لِقول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ (وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ) لِقولهِ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ثُمَّ قَال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَبَقِيَ لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالشَّافِعِيُّ يُقَدِّرُ الْأَكْثَرَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَعَنْ اللَّيْثِ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ سَبْعُ سِنِينَ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ.
أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَمْلِ عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَوَّلُ ظِلُّ عَمُودِ الْمِغْزَلِ.
وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَمِنْ جِهَتِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ مِغْزَلٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقول هَذَا؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ حَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً كُلُّ بَطْنٍ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَحْكِيِّ عَنْ امْرَأَةِ ابْنِ عَجْلَانَ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إلَى الشَّارِعِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْخَطَأُ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ فَإِنَّمَا بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهَا إلَى مَالِكٍ وَالْمَرْأَةُ يُحْتَمَلُ خَطَؤُهَا، فَإِنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ انْقَطَعَ دَمُهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ بِتَمَامِهَا كَانَتْ حَامِلًا فِيهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا امْتَدَّ طُهْرُهَا سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ حَبِلَتْ، وَوُجُودُ الْحَرَكَةِ مَثَلًا فِي الْبَطْنِ لَوْ وُجِدَ لَيْسَ قَاطِعًا فِي الْحَمْلِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ غَيْرَ الْوَلَدِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا عَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا وَجَدَتْ ذَلِكَ مُدَّةَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْحَرَكَةِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ وَكِبَرِ الْبَطْنِ وَإِدْرَاكِ الطَّلْقِ فَحِينَ جَلَسَتْ الْقَابِلَةُ تَحْتَهَا أَخَذَتْ فِي الطَّلْقِ فَكُلَّمَا طُلِقَتْ اعْتَصَرَتْ مَاءً هَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ انْضَمَرَ بَطْنُهَا وَقَامَتْ عَنْ قَابِلَتِهَا عَنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ لَا يُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ.
وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثْبَتَ نَسَبَ وَلَدِ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَتَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا حَامِلًا فَهَمَّ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: إنْ كَانَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ يُشْبِهُ أَبَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ قَالَ: وَلَدِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ وَدَعْوَى الرَّجُلِ نَسَبَهُ.
قولهُ: (وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ) وَلَا خِلَافَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ لِقولهِ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مَعَ تَفْسِيرِ الْفِصَالِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِكَوْنِهِ فِي عَامَيْنِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْفَاضِلِ لِلْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَرَّرَهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضَاعِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَضْرُوبَةٌ بِتَمَامِهَا لِكُلٍّ مِنْ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْقِصَ قَامَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قُلْنَا: قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِينَ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ رَجَعَ إلَى الصَّحِيحِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكَرَهُ هُنَا وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْرِدُهُ لَا هُوَ فَنَقَلَ بَعْضَهُ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَخَصَمَتْكُمْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقَال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَمْلِ إلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَرَأَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدَّ عَنْهَا.
فَالتَّمَسُّكُ بِدَرْءِ عُثْمَانَ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَمُفِيدٌ لِقَطْعِيَّةِ إرَادَةِ كَوْنِ الْمُدَّةِ بِمَجْمُوعِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّتِهِ حَيْثُ سَكَتُوا وَرَتَّبُوا الْحُكْمَ بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ يَبْطُلُ تَمَسُّكُهُ فِي الرَّضَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى الشِّرَاءِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ يُضَافُ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ وَقْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَةٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا بَائِنًا أَوْ خُلْعًا أَوْ رَجْعِيًّا، أَمَّا إذَا كَانَ اثْنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يُضَافُ الْعُلُوقُ إلَّا إلَى مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالشِّرَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا) أَيْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ: أَيْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَلَفْظُ يَوْمٍ بَعْدَ مُنْذُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الدُّخُولِ وَوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ إلَّا أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ فَارَقَهَا لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهَا أَوْ بَعْدَهُ وَالطَّلَاقُ ثِنْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ.
قولهُ: (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِهِ لِأَقَلَّ بَلْ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ قولهُ: (لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ لِلتَّيَقُّنِ بِكَوْنِ الْعُلُوقِ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ، وَوَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَدَ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا كَانَ وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ إذْ لَا يَظْهَرُ عِدَّتُهَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ، وَالْمَرْأَةُ مَتَى وَلَدَتْ وَالْوَطْءُ حَلَالٌ يُقْضَى بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكًّا وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَاعْتِبَارُهَا فِي الْأَوَّلِ يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ ثِنْتَيْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ بِهِ تَحْرُمُ الْأَمَةُ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يَحِلُّهَا الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمُحَرَّمَةِ حُرْمَةً غَلِيظَةً مُغَيَّاةٌ بِنِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَيْهِمَا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ فَقَضَيْنَا بِالْعُلُوقِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ حَمْلًا لِأَمْرِهِمَا عَلَى الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِلَا دَعْوَةٍ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً وَهُوَ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ فَيَلْزَمُهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِعَشْرِ سِنِينَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَأَكْثَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا ثَبَتَ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَاقِ، يَعْنِي لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لِلرَّجْعِيَّةِ ثَابِتًا.
وَلَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْمَوْطُوءَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ الزَّوْجُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ بِالشِّرَاءِ وَصَارَتْ بِحَالٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ لَوْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ إلَّا بِدَعْوَةٍ وَالْعِتْقُ مَا زَادَهَا إلَّا بُعْدًا مِنْهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ بِلَا دَعْوَةٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ بَطَلَ النِّكَاحُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ لَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ لِلْمِلْكِ وَبِالْعِتْقِ ظَهَرَتْ، وَحُكْمُ مُعْتَدَّةٍ عَنْ بَائِنٍ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا تِلْكَ.
وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ الْعَقْدِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا وَلَكِنْ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ بَاعَهَا؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ؛ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِلَا تَصْدِيقٍ كَمَا قَالَ فِي الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِلَا دَعْوَةٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ ظَهَرَتْ ثَمَّ وَلَمْ تَظْهَرْ هُنَا.
وَلَوْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ فَنَفَاهُ لَاعَنَ وَيَقْطَعُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَإِنْ احْتَمَلَ عُلُوقَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِهِ لَا لِعَانَ لَكِنَّ الْعُلُوقَ حَادِثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْحَوَادِثِ مَا قُلْنَا.
وَكَذَا حُرٌّ تَحْتَهُ أَمَةٌ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ لَاعَنَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْعُلُوقُ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ يُنْتَقَضُ بِمَسَائِلَ: إحْدَاهَا مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِيجَابِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْهُ فَالْإِيجَابُ عَلَى إبْهَامِهِ وَلَا تَتَعَيَّنُ ضَرَّتُهَا لِلطَّلَاقِ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ.
وَثَانِيَتُهَا مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَكَذَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي تَعْلِيقِ الْعَتَاقِ بِالْحَبَلِ.
وَثَالِثَتُهَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ: أَعْنِي الْبَيَانَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ.
قُلْنَا: الْحَوَادِثُ إنَّمَا تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ إبْطَالَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ أَوْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْمُقْتَضَى، أَمَّا إذَا تَضَمَّنَتْ فَلَا، فَمَتَى عَوَّلْت عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ اسْتَقْرَيْت الْمَسَائِلَ وَجَدْت الْأَمْرَ عَلَيْهِ، فَفِي ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ إبْطَالُ مَا كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ بِلَا يَقِينٍ، وَفِي الرَّجْعَةِ كَذَلِكَ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى اسْتِكْرَاهِ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ الْقول.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ عَلَى الْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُودِ النَّسَبِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الدَّعْوَةُ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ: أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، هَذَا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَلْزَمُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُدَّعِيًا هَذَا الْوَلَدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَتَيَقَّنَّا بِقِيَامِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْقول فَتَيَقَّنَّا بِالدَّعْوَى.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِغُلَامٍ هُوَ ابْنِي ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ وَقَالَتْ أَنَا امْرَأَتُهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَهُوَ ابْنُهُ يَرِثَانِهِ) وَفِي النَّوَادِرِ جُعِلَ هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ النَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَبِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَكُنْ قولهُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْحُرِّيَّةِ وَبِكَوْنِهَا أُمَّ الْغُلَامِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِذَلِكَ وَضْعًا وَعَادَةً (وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَنْتِ أُمُّ وَلَدٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) لِأَنَّ ظُهُورَ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ حُجَّةٌ فِي دَفْعِ الرِّقِّ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (يَرِثَانِهِ إلَخْ) فَإِنْ قِيلَ: ثُبُوتُ النِّكَاحِ هُنَا اقْتِضَائِيٌّ فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَصْحِيحُ النَّسَبِ دُونَ الْإِرْثِ.
قُلْنَا: النِّكَاحُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ إلَى مَا هُوَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَلْزُومٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ ثَبَتَ بِلَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.
قولهُ: (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَأَنَّهَا أُمُّ الْوَلَدِ) وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا حُرَّةً هِيَ أُمُّ ابْنِهِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَادَةً وَعُرْفًا لِأَنَّهُ الْمَوْضُوعُ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ دُونَ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَهُمَا احْتِمَالَانِ لَا يُعْتَبَرَانِ فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ، وَكَذَا احْتِمَالُ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النِّكَاحُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ زَوَالُهُ.
قولهُ: (فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَلَكِنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالدُّخُولِ بِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ بِقولهِمْ.
قولهُ: (لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ) فَلَا يُقْضَى بِهِ كَالْمَفْقُودِ يُجْعَلُ حَيًّا فِي مَالِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ غَيْرُهُ مِنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ مَفْقُودٌ مِنْ أَحَدٍ.